يُعد الانحياز الذاتي أحد أنواع التحيّز المعرفي، وهذا السلوك يهدف إلى جعل الأشخاص تميل إلى معلومات بعينها تدعم افتراضاتهم وتؤكد أفكارهم، ولا يلتفتون إلى المعلومات التي تتناقض مع أفكارهم وتخالف معتقداتهم حتى وإن كانت صحيحة.
وهذا السلوك يعتبر من السلوكيات الخاطئة وغير المنطقية والتي تؤثر في إصدار الأحكام وعملية صنع القرار.
فالنفس البشرية ترغب -دومًا- في الشعور بأنها على حق، لذا نجدها تتمسك وتتشبث بما تراه صحيحًا، ولا تريد أن تثبت خطأ غرورها، طبيعة النفس البشرية تحب ألا يُخطئها أحد ولا يتعارض مع آرائها والجميع يصفق لأفكارها حتى وإن تعارضت مع العقل والمنطق.
وغالبًا ما نفعل ذلك دون إدراك أو وعي لمدى تأثير هذا التحيز والتعصب في الدفاع عما نعتقده، قد تصل بك الثقة والكبرياء لدرجة ألا ترى نفسك على خطأ وتظل تدافع عن أفكارك وتعارض كل من يخالفك، لكن أنت ضحية لهذا التحيز المريض الذي يجعلك لا ترى سوى فكرة ولا تقبل باكتساب أفكار جديدة تعمل على إثراء ثقافتك المعرفية.
والتحيز نراه -بصورة شائعة- في الجوانب السياسية وتصارع الأحزاب، فنجد البعض يمجد حزبه عندما يقدم خدمة للمواطنين ويشيد به ويظل يمدحه مرارًا وتكرارًا، لكن إذا أقبل الحزب على ارتكاب فعلٍ مشين فيتم تجاهله ويبرر هؤلاء المنحازين ذلك بأن الخطأ وارد وهم بشر وعبارات من هذا القبيل.
وعلى النقيض عند ارتكاب الحزب المعارض خطأ يتم التشهير به وذمه والتحدث عنه دائمًا بصورة سلبية سيئة، وعند إتيانه بشيء إيجابي لا يمجده ولا يمدحه ويتجاهله ليركز على الخطأ وهذا هو التحيز والتعصب بعينه.
يمكننا أن نؤكد لك -ببساطة- أنك ترغب في أن يظل إيمانك الأصلي سليمًا وأن تظل معتقداتك وأفكارك صحيحة طوال الطريق، تقبل -فقط- بما يوافق كل تلك الأفكار وتنبذ وتشجب كل ما يتعارض معها، وهذا الأمر ليس فيه عدل أو إنصاف بجانب تعارضه مع العقل والمنطق.
ونرى أن السبب الأساسي للتحيز التأكيدي إنما يكمن في عقلك، لأن العمل على تقييم الحقائق الجديدة بحاجة إلى طاقة وقد تصاب بعدم الراحة والارتباك حين تُقبل على تغيير معتقداتك، لذا يلجأ عقلك إلى التشبث بما تعتقده لأنه الخيار الأسهل.
قال وارن بافيت “البشر هم الأفضل في تفسير المعلومات الجديدة لكن تظل استنتاجاتهم السابقة كما هي”.
وقال ألدوس هكسلي “الحقائق لا تختفي مهما كنت تتجاهلها”
بعض الأمثلة على التحيز التأكيدي
أولًا: التنجيم / بطاقات التارو
الحديث هنا ليس عن وجود التنجيم في حياتنا الواقعية أو عدم وجوده، وإنما يكمن الأمر في وجود شخص مؤمن بما يقوله المنجم ويصدقه، وشخص آخر لا يؤمن بما يقوله المنجم، فالشخص المؤمن يدافع عن المنجم ويتعصب له ويذكر توقعاته ونبوءاته التي تحققت، أما الشخص غير المؤمن بالمنجم يركز -بشدة- على عدم تحقق نبوءاته وكذب توقعاته.
فإذا جلسا هذين الشخصين معًا وتناقشا سويًا وأصبح الحديث محتدم ومتأجج، في النهاية ينتهي الحديث وكلا الطرفين أصبحا مشحونين عاطفيًا ومضطربين وتظل معتقداتهما كما هي دون أدنى تغيير.
ثانيًا: المعالجة المثلية
وتعد أحد أنواع الطب البديل الذي يعتمد على مواد أو أعشاب طبيعية، فمثلا لأن البصل يجعل عينيك تدمع، فإن جرعات صغيرة من البصل تعمل كدواء لحساسية العين.
ورغم أن العديد من الدراسات العملية أثبتت عدم جدوى المعالجة المثلية، وعدم فعالية حبوب المعالجة المثلية لعلاج أي مرض، إلا أن الكثير من الناس مازالوا يؤمنون بها.
ثالثًا: كذب الوصول إلى القمر
لقد تم الهبوط على سطح القمر عام 1969 وتوجد العديد من الأدلة التي تثبت ذلك الهبوط، لكن بعض الأشخاص أرجعوا الأمر إلى نظرية المؤامرة وكذبوا الوصول للقمر وقالوا بأنه هذا الهبوط كان مزيفًا وتم تصويره في منطقة 51 وهي قاعدة عسكرية غرب الولايات المتحدة.
ونجد أن المؤمن بنظرية المؤامرة لا يجادل ضد الأدلة التي تثبت صحة الهبوط على القمر، لكن يأتي بحجج مختلفة تؤدي بك إلى جعل الأمر مشكوكًا في صحته.
رابعًا: الملحدون والمؤمنون
وفقًا لإحدى الدراسات التي أجريت عام 2018، فإن الملحدين حوالي 7% من سكان العالم وحوالي 16% لا ينتمون لأي دين، وبذلك بإن المؤمنين يشكلون 84%.
والملحد يرجع وجود الحياة لنظرية التطور ونظريات علمية أخرى، بينما المؤمن فيتحدث عن المعجزات وأهمية الصلاة وعدم تفسير العلم لسبب الانفجار العظيم.
وهنا نجد رسوخ التحيز والتعصب فلا يمكن للمؤمن أن يقنع الملحد بخطأ اعتقاده والرجوع إلى الأفكار والمعتقدات الصحيحة بل قد يكون ذلك ضربًا من الخيال.
خامسًا: المحاورة والمقابلات
عند قيام محاور باستضافة أحد المرشحين وتكون لديه فكرة مسبقة عن كون هذا المرشح لا يصلح للمكان والدور المرشح له، فهو يرى أن المرشح الأنسب يرتدي زيًا رسميًا، ويأتي هذا المرشح بزي غير رسمي ليتأكد المحاور من صحة اعتقاده حول هذا المرشح وأنه لا يصلح للمكانة الوظيفية ولا يمتلك المهارات اللازمة.
سادسًا: الأطباء والمرضى
يقوم الطبيب بتشخيص المرض بناء على الأعراض التي يعانيها المريض، لكن مع وجود أمراض لها أعراض متشابهة، فإن الطبيب قد يُخطئ حين يفترض أن المريض مصاب بمرض X وتأتي تساؤلاته للمريض عن الأعراض التي تؤكد إصابته بهذا المرض كما يرفض إجراء تحاليل أو إشاعات لإثبات صحة ما يعتقده أو خطئه.
ونرى العديد من العمليات الجراحية تم إجراؤها بناء على التحيز لتشخيص خاطئ، كما تم تناول أدوية كثيرة غير صحيحة أدت إلى حدوث مضاعفات كبيرة.
على سبيل المثال، فإن أعراض الحمى الفيروسية وحمى الضنك متشابهة إلى حد كبير، فإذا افترض الطبيب أن المريض يعاني من حمى فيروسية، فأعراض حمى الضنك تتطابق بشدة لتأكيد افتراضه، وتجاهل التشخيص بحمى الضنك يمكن أن يؤدي إلى الوفاة في بعض الحالات، لذا يجب على الطبيب -دون تحيز- وصف فحص الدم لحمى الضنك لمساعدته في التشخيص
التأثير السلبي للتحيز التأكيدي
إذا كنت تعترف بوجود هذا السلوك فإنك تستطيع أن تتداركه وتتغلب عليه وتنحى تأثيره السلبي بعيدًا عنك، قد يكون من الصعب القضاء عليه تمامًا لكن ببعض العقلانية والتحلي بالموضوعية والحياد والتواضع تتمكن من الحد من الوقوع في شباكه، ومن الأمثلة التي تدل على ممارستك له بشكل يومي هي:
* التقيد بزي معين لاعتقادك بأنه يؤثر في جعل النتائج إيجابية وفي صالحك، فتقوم بارتدائه في شتى المقابلات والاجتماعات الرسمية والأحداث المهمة.
وأنت بذلك تمارس التحيز الذاتي لهذا الزي وتربطه بالنجاحات التي حققتها دون أن تهتم بالإخفاقات التي حدثت لك وأنت ترتديه أيضًا.
* الكثير منّا يفضل مشاهدة قنوات إخبارية دون غيرها، وإذا تأمل الأمر سيجد أنه يفضل تلك القنوات بعينها لأنها تتوافق مع معتقداته وأفكاره، فالقناة التي تظهر حزبًا سياسيًا بشكل جيد، سيكون متابعوها هم أعضاء الحزب ومؤيديه.
* نرى -يوميًا- مباريات لكرة القدم وهتافات البعض لدعم فريقه المفضل، فهو يتحيز لفريقه المفضل بتعصب يجعله لا يرى أخطائه، فإذا قام أحد لاعبي الفريق بسلوك يخالف روح اللعبة، فيأتي مشجعه مسرعًا ومبررًا هذا السلوك، على الرغم من عدم قبوله نفس السلوك ونبذه إذا قام به لاعب الفريق المنافس وتظل تشكك في نزاهة حكم المباراة.
* مع ظهور التقنيات الحديثة ووسائل التعلم الآلي أصبحت الآلات لديها القدرة على فهم اهتماماتك، لذا نجد -جميعًا- الآن وسائل التواصل الاجتماعي تتعمد ظهور المنشورات والأخبار التي تتوافق مع اهتماماتنا وأفكارنا والعمل على ترسيخها حتى لو كانت خاطئة.
ومن أشهر الأمثلة على ذلك نتائج الانتخابات الأمريكية عام 2016 التي فاز بها ترامب على هيلاري كلينتون، وقد صُدم أنصار هيلاري بنتيجة الانتخابات لأن وسائل التواصل الاجتماعي أظهرت لهم مقالات تشيد بإنجازاتها وتؤكد فوزها لأن ذلك يتوافق مع معتقداتهم.
* النفس البشرية -دائمًا- تنحاز للانطباعات الأولية وتحكم على الأشخاص من خلالها وتتعصب لها دون محاولة لتغييرها، فعلى سبيل المثال إذا قال زميل داخل العمل عبارة شديدة اللهجة أتى انطباعك عن هذا الشخص بأنه سيء وغير مؤهل للتعامل مع زملائه، بل وكلما تحدث أو جاءت رسالة منه عبر البريد الالكتروني لا ترى منها سوى ما يؤكد انطباعك عنه بأنه شخص سيء.
ونلاحظ هذا أيضًا في تعامل الأم مع أبنائها فهي تعتقد أنهم مهملون في تنظيف غرفتهم، لذا لا تقع عيناها إلا على الأشياء التي تم إهمالها ولا ترى المجهود الذي بذل في جوانب أخرى من الغرفة.
* ومما رأيت من أمثلة التحيز في حياتنا اليومية، اعتقاد بعض رجال الأعمال بأفكار معينة دون قبول الرأي الآخر والاستماع لوجهات النظر المختلفة، والتشبث بتلك الأفكار وبناء مشروع على أساس تلك الأفكار مما يؤدي إلى فشل ذريع ووقوع خسائر فادحة للشركة.
طرق تجنب التحيز التأكيدي
لا يمكن القضاء تمامًا ونهائيًا على التحيز التأكيدي، لكن إذا أدركت وجوده فإنك تتمكن من تجنبه والحد من تأثيره، وأهم الطرق الفعالة لتجنب التحيز والتعصب هي:
أولًا: حاول أن تبحث عن آراء مخالفة لمعتقداتك، وأفكار أخرى تضعف بها رؤيتك، عندما توصل تشارلز داروين إلى نظرية التطور، أمضى وقتًا طويلًا من أجل إيجاد حالات يمكن أن تثبت خطأ نظريته.
ثانيًا: يمكنك البحث عن رأي ثانٍ، والاستعانة بشخص له وجهة نظر أخرى، مع النظر بموضوعية لكلا الرأيين، فمثلًا يجب على المرضى الذين تم تشخيص إصابتهم بالسرطان طلب رأي طبيب آخر لأن اختبارات السرطان ليست دقيقة دائمًا.
ثالثًا: يجب عليك قبول النقد البناء الذي يسهم في تعديل أفكارك ويثري ثقافتك ويزيدك معرفة، فلا تتجاهل الانتقادات وتفترض أن البعض ينتقدك لأنه يشعر بالغيرة منك.
لذا فالنقد مفيد بحسب ما يحمله، لأن هناك أشخاصًا ترغب في النقد فقط دون إبداء أدلة على صحة نقدها.
رابعًا: لكي تثبت صحة اعتقادك وأفكارك ولا تنحاز إليها تحيزًا أعمى، فينبغي أن تعتمد على أدلة ومعلومات كثيرة تؤكد صحة ما تقوله، فمثلا البعض يزعم بأن التقنيات الحديثة ترتفع أسهمها كل يوم، لكي يؤكد ما يزعمه يجب أن يأتي بالبيانات الكافية والمعلومات المستفيضة التي تؤكد ذلك حتى لا يتهم بالتحيز التأكيدي.
خامسًا: حاول ألا تقاتل في محاولاتك كي تثبت أنك على حق، فالبشر يفرحون بالانتصار ويسعدون بإثبات ذكائهم، لكن عليك أن تتمهل وتتوقف لبرهة وتفكر فيما تسمعه من معتقدات مخالفة لك فربما تكون أنت الذي على خطأ.
سادسًا: قد تواجه أمورًا لم تكن تتوقعها وترفضها فقط لأنك تفاجأت بها، وهذا بالطبع خطأ، حاول قبول أي أمر مفاجئ لأنه قد يكون صحيحًا وما تعتقده هو الخطأ.